شكّل اكتشاف النفط في قطر لحظة فاصلة في تاريخ البلاد، أدّت إلى حدوث تحولات جذرية اخترقت كل جانب من جوانب المجتمع. كما شهدت هذه الفترة الانتقالية تغيرات غير مسبوقة في مختلف المجالات، فبرزت العمارة باعتبارها ميدانًا هامًا في رحلة التحوّل تلك، حيث سجّلت المدينة تطوّرًا هائلًا في فترة وجيزة، وتوسعت من خلاله آفاق الدوحة توسعًا ملحوظًا في العقود الأخيرة من القرن العشرين. ورغم أن العديد من التصاميم المعمارية كانت تمثّل قطر على المستوى العالمي من حيث تجسيدها لنهضة البلاد، إلا أنها أثبتت عدم ملاءمتها للمناخ الاستثنائي الذي تتميز به التضاريس الصحراوية ذات الحرارة المفرطة.
لقد حدث تغير واضح في المنظور الأصلي بحلول القرن الحادي والعشرين، عبّر عنه تبني الوعي البيئي على نطاق أوسع ــ موقف كان أجدادنا سيشيدون به. فالاستيعاب الدقيق للإضاءة والتوجيه وإدارة درجة الحرارة، باعتبارها مكونات أساسية توجّه فلسفة التصميم لدى المهندسين المعماريين، يُجسد العودة الهادفة لمهندسي هذا العصر إلى المعارف القديمة. تشير هذه النهضة إلى ابتعاد المهندسين المعماريين المعاصرين عن المنهجيات التقليدية، مستمدّين إلهامهم من أفكار تاريخية يطوّرون من خلالها عمارة مستدامة تراعي البيئة. يحاول المهندسون المعماريون دمج جماليات التصميم الحديث بالمبادئ المتأصلة في العالم الطبيعي مع إحياء المعارف القديمة، لضخّ أفكار جديدة تراعي البيئة وتلتزم بالممارسات الأخلاقية في مجال العمارة.
كشف كل من التطبيق العملي للمعارف في مجال الهندسة المعمارية وأسئلته العلمية المكثّفة عن ندرة ملحوظة في المراجع الأكاديمية حول تاريخ العمارة لدينا، مما دفعني إلى الشروع في توثيق ممنهج لمحاولاتي البحثية. وكانت أولى ثمرات هذا المسعى العلمي نشر كتاب History of Qatari Architecture، حيث تناولنا، ماليكي بورنان وأنا، بشكل شامل مظاهر العمارة المحلية قبل عصر اكتشاف النفط. لقد ألّفت هذا الكتاب المهم بهدف إحياء إرثنا الثقافي والحفاظ عليه. في الكتاب تنقيب في روح العمارة القطرية قبل تأثرها بنماذج البناء الحديثة، بسبيل المساهمة في بلورة معرفة متكاملة حول مدى تقدّمنا في مجال العمارة.
بعد عدة سنوات من إصدار The History of Qatari Architecture، اتخذت قرارًا مستنيرًا لتوسيع هذا البحث العلمي ليشمل مجال التصميم الداخلي. في Qatari Style وضّحت التفاعل المتداخل بين الخصائص الكلاسيكية والانتقالية والحديثة، والعديد من التأثيرات الأسلوبية الظاهرة في فضاءاتنا الداخلية. تتطرّق أعمال المتابعة هذه إلى الثغرات الموجودة حاليًا في الخطاب الأكاديمي حول التصميم الداخلي القطري من خلال تقديم تقييم مفصل لهذه العناصر، لتكون بمثابة مصدر قيّم للأوساط الأكاديمية والعاملين في المجال.
ويغوص أحدث مشروع بحثيّ لي في أعماق البيئة المتنوعة للعمارة القطرية منذ اكتشاف النفط وحتى الثمانينيات. وقد كان مشروع الدراسة هذا مستوحى من مجموعات الأرشيف الضخمة لشركتي، والتي حصلتُ عليها في التسعينيات من المكتب العربي للشؤون الهندسية، أقدم جهة محلية تُعنى بمجال العمارة والهندسة في قطر والتي تأسست في عام 1966. هذا الكنز التاريخي الثمين الذي اقتنيته، أتاح لي استفادة غير مسبوقة من رسومات المشروع الأصلية للشركة التي استُكملت خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والتي منحتني مصدرًا هامًا لفهم تاريخ المنطقة المعماري خلال هذه الفترة الدقيقة.
في خضمّ البحث، اكتشفت اكتشافاً مثيرًا يسلط الضوء على عصر ما بعد اكتشاف النفط، حين ركزت استثمارات الحكومة المبدئية بشكل بارز على المدارس، مما رسّخ الاهتمام بتعليم الأجيال الصاعدة، والعمل على بناء اقتصاد قائم على المعرفة. وفي خمسينيات القرن الماضي، ومع تزايد الطلب على التعليم، أحدثت آمنة محمود الجيدة، إحدى أبرز رواد التعليم في قطر، أول مدرسة للبنات داخل بيت الجسرة. وبحلول عام 1955، تغيّر اسم المؤسسة من مدرسة آمنة محمود الجيدة إلى مدرسة بنات الدوحة. ومع ارتفاع عدد الطالبات المسجلات، ونظرًا لضيق مساحة المدرسة، اضطرت وزارة المعارف إلى نقلها إلى فضاء آخر أكثر اتساعًا، وكان للمدرسة باع طويل لا يزال ينبض بالحياة. المبنى الذي كان منزلًا في السابق، بات يحتضن اليوم ليوان: استديوهات ومختبرات التصميم.
لم يكن التعليم المجال الوحيد الذي شهد نموًا في هندسته المعمارية؛ بل كانت المستشفيات والمساجد والمنازل والأسواق والمباني الحكومية تتطوّر عمارتها بشكل موازٍ. فبعد تحليل مفصل للأعمال الأرشيفية من ذلك العصر، ظهر تشابه لافت: شابهت الألوان الزاهية للأنماط الهندسية التي تزين المباني والمنازل الخاصة أسلوب الفن الزخرفي الذي شاع استخدامه في الولايات المتحدة وأوروبا. قام المهندسون المعماريون الذين لم يُعرفوا بعد والذين عملوا على تلك الزخرفة البارزة ذات المنحنيات الحادة والخطوط السميكة، بمزجهابطابع محلي خاص، يُظهر صقورًا وسعف نخيل، بالإضافة إلى مؤثرات عربية أخرى. ويكشف هذا الاندماج بين الأفكار الأجنبية في مجال العمارة والجماليات المحلية عن توليفة ميّزت المشهد المعماري في قطر في عصر ما بعد النفط.
تُعدّ البوابات المنمّقة التي تزين القصور والمنازل مثالاً لما أَطلَقْتُ عليه اسم "الزخرفة العربية"، أسلوب تجسّده مبانٍ مثل قصر الشيخ فهد بن علي، وقصر الريان، ومجلس الشيخ محمد بن حمد، وقصر العطية، وقصر الشيخ غانم بن علي. وفي الوقت الذي تعرّضت فيه بعض هذه البنى إلى الهدم، جرى الاحتفاظ بأخرى تحت مظلة متاحف قطر. يمكننا إعادة صنع هذه البوابات الرائعة وإبداعها بالطراز نفسه من خلال الحفاظ، بعناية فائقة، على صورها والمحاولات لأرشفتها في نهاية القرن الماضي، وإبراز فخامتها للجمهور على مستوى العالم. وبعيدًا عن بوابات القصور، فإن طابع "الزخرفة العربية" يبدو جليّا في العديد من المباني السكنية، مثل تلك الموجودة في منطقة الأصمخ، والتي تساهم في إثراء النسيج التراثي في مجال العمارة بقطر.
انتهى عصر الزخرفة العربية في ستينيات القرن الماضي عندما شاع استخدام أساليب البناء العصرية، ولعلّ مكتب البريد وفندق الشيراتون هما خير مثال على الهندسة المعمارية التي لبست حلة تلك المرحلة.
إن تقديرنا لتراثنا الثقافي الغني لبلدنا والسعي معًا للحفاظ عليه من خلال التوثيق الدقيق والدراسة المستمرة هو أمر بالغ الأهمية. وفي سياق هذا الحرص، تعودت على إلقاء محاضرات للطلاب الشباب في المؤسسات القطرية، أركّز فيها على أهمية تقدير التراث والحفاظ عليه. لطالما قلت لهم: "لا تنظروا إلى تراثكم كسلاسل تثقل كاهلكم، بل اجعلوه مرساةً تتعلمون وتبنون منها".