وأنا في صالة انتظار في مبنى حكومي، قاومت الملل بتجربة الذكاء الاصطناعي المختص بالطباعة، عبر نموذج شات جي بي تي. طلبت منه أن يقترح فكرة لكاريكاتير سياسي عن الذكاء الاصطناعي، وكيف سيغير العالم، كما اشترطت عليه أن يكون الرسم على غرار أسلوب الرسام خالد البيه، الذي هو أنا.
كان الجواب، كما مترجم هنا:
بعد ذلك قمت بنسخ اقتراح شات جي بي تي، المبني على تحليل كل أعمالي المتوفرة على الانترنت نظرياً، واتخاذ قرار مبني على إحصائيات وخوارزميات حدّدت ماذا كان لخالد البيه أن يرسم في هذا السياق، ولصقته على نموذج MidJourny، وهو نموذج ذكاء اصطناعي آخر مختص بتحويل النصوص المكتوبة التي تبدأ بالأمر "تخيّل.." إلى رسوم. وبالفعل، لبّى النموذج أمنيتي في غضون ثوان معدودة، وقدّم أربعة أعمال فنية مختلفة رُسمت وفق أسلوب خالد البيه، يمكنك أن تختار منها أو تكرر طلبك حتى تصل إلى مرادك، إذ سيعطيك كل ما تبتغي، دون كلل وعجز عن الابتكار، كما أنّه لن يملّ منك حتى تملّ منه، أو تنتهي باقة اشتراكك في النت.
الرسوم التي حصلت عليها من نموذج MidJourny عبر أمر تمّ توليده عبر نموذج تشات جي بي تي.
النتائج ليست دائماً مرضية، لكن لا شكّ في أنّها مثيرة للإعجاب، حتى وأن معظم الكتاب والفنانين، بمن فيهم أنا، لا يريدون الإقرار بذلك، كي لا نرضي غرور منافسنا الجديد، عبر التشبّث بالادّعاء أننا نحن فقط من لدينا القدرة على نفث روحنا في ما نبدعه من أعمال فنيّة تنعكس فيها خبراتنا في الحياة، بعكس هذا النموذج الآلي الذي يلخص تجاربنا بمجرّد نقرة، وهو ما ينعكس على أعماله الرقمية الباردة التي ينتجها في ثوان ولا يطلب مقابلها أجرًا، بل يسأل: هل تريد المزيد؟
ما يحدث وراء الكواليس في هذه الثواني التي تطلب فيها المزيد بالفعل، ليس استحداثًا من العدم بطبيعة الحال، بل عملية معقّدة تعتمد في أساسها على حجم ضخم من البيانات والمصادر المرئية، والقيام بعمليات قص ولصق ودمج لمليارات الصور والرسومات الموجودة على شبكة الإنترنت، وفقاً لتفاصيل تخيلاتك التي حشوت بها طلبك. وكلما أغرقت في شرح التفاصيل، تبحّر هذا الروبوت، أو النموذج التفاعلي المعتمد على الذكاء الاصطناعي، من أجل اصطياد كل ما هو متوفر من المعلومات غير المشفرة في محيطات النت العريضة، من أجل إنتاج أعمال فنية من رسومات أو مقاطع فيديو.
وليست هذه البيانات التي تعتمد عليها هذه النماذج التفاعلية الذكية مخزّنة في أرشيف في أسفل قبو مظلم، تحرسه العقد البيروقراطية لرجلٍ سبعيني يستميت دون منح المعلومات لأحد، خوفاً من أن تقع في يد أحد قد يستفيد منها، لا سمح الله، بل هي بيانات مفتوحة المصدر في أغلب الأحيان، ويستفيد منها النظام التفاعلي في سرعة زيادة الكم المعرفي لديه كي يستفيد منه في الاستحداث اللحظي للمعلومات عند الطلب القادم من المستخدم.
وهنا يكمن الخطر الذي توقّعه معظم المهتمين بالتكنولوجيا منذ تطور الحواسيب بمنتصف القرن التاسع عشر. لقد استوحت مئات الروايات وأفلام هوليود التي تدرج تحت تصنيف الخيال العلمي من هذا الواقع العلمي. وقد كان من بين الأفلام المبكرة من هذا الصنف فيلم "ذا تيرميناتور" الذي تدور قصته حول سيطرة الذكاء الإلكتروني على العالم في ظل حرب ضروس ومقاومة بشرية شرسة، إلى أن يتمّ نقل رجل آلي عبر الزمن لتبدأ حرب بين الآلتين قبل زمنها لقتل أو إنقاذ قائد الجيوش البشرية قبل ولادته. لكن لعل أشهر الأفلام هو فيلم "ماتريكس" الذي تقع أحداثه في مرحلة انتهت الحرب بها بفوز الذكاء الاصطناعي وتفوّقه، وإنتاج واستعمال البشر كبطاريات، في حين يعيش البشر في عالم افتراضي هو واقعنا اليوم. ومثله من الأفلام الحديثة فيلم "شي" الذي يتحدث عن رجل يقع في غرام نموذج محادثة ذكيّ صوتيّ، له صوت امرأة، وهو فيلم يكاد يكون واقعيًا لشدّة اقتراب ما يدور في واقعنا اليوم، على الأقل في عدد غير قليل من الحواضر الغربيّة المتقدّمة.
أما عربيًا، فإنّ عدم توفر برامج للذكاء الاصطناعي باللغة العربية حالياً هو ما يفصلنا مؤقتاً عن تعميم استعمال هذه التقنية بين قطاعات واسعة من الناس، ولا سيما الطلبة في مختلف المراحل الدراسية، والاعتماد عليها في كتابة كل شيء من بحوث أو واجبات، على غرار ما يفعل زملاؤهم اليوم باللغة الإنجليزية، حتى أن بعض المدارس والجامعات اضطرت إلى حجب الوصول إلى نموذج شات جي بي تي على شبكة الإنترنت داخل مرافقها. وقد سبق إلى توظيف هذه النماذج بعض الأنظمة السياسية وجماعات الضغط والتضليل الإعلامي على شبكة الإنترنت، إذ اعتمدت بعض المواقع اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة توظيف نماذج الذكاء الاصطناعي في فبركة ونشر تقارير تحريضيّة ضدّ قطر وتركيا وإيران وغيرها، منسوبة لشخصيات وهمية وتوليد صور لها. وقد تزايد التحذير مؤخرًا من خطر نماذج مثل شات جي بي تي وغيرها في حملات التضليل الإعلامي عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
في هذا السياق، لا يعود مستغربًا أن تغرق مواقع التواصل بالنظريات والمقالات التي تحذّر من نماذج الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، وشيطنتها. فهنالك من يرى خطرًا داهمًا في تسهيل وصول المستخدمين إلى المعلومة بطريقة ديمقراطية، كما أن آخرين يرون فيها تهديدًا للإنسان وإزاحة له عن رأس هرم التطوّر. ما أميل إليه أنا شخصياً هو الحرص على استغلال كل فرصة متاحة للتوظيف الإيجابي لهذه التقنيات في مجتمعاتنا، وعدم التردّد والتأخر في دخول هذا الميدان.
أمام الذكاء الاصطناعي طريق طويل حتى يبسط سيطرته، لا سيما في المنطقة العربية. والدليل هو أنني كتبت هذا المقال، بعدما قضيت صباحي وأنا أتأمّل في موظف يطبع بإصبع واحدة على كمبيوتر قديم، وأنا أجلس هنا، في كرسي يكاد ينكسر من تحتي في صالة انتظار في مبنى حكومي، ومعي ما يقارب ألف مواطن في انتظار عودة الكهرباء إليهم والتوقف عن قطعها يوميًا.