A page from the Qur’an manuscript showing beautiful calligraphy

"لقد بدأ الأمر في أرض الظلام"

"لقد بدأ الأمر في أرض الظلام": لمحة موجزة عن مرض "الموت الأسود" في العالم الإسلامي.نيكوليتا فازيو

المشاركة مع صديق

دعوني أخبركم قصة عالَمٍ تحكمه العولمة، يسعى إلى تحقيق الأرباح، مكتظٍ بالسكان، يعيش أزماتٍ اقتصادية مستمرة، تضربه الكوارث الطبيعية، وأخيراً وبشكلٍ مفاجئ يضربه مرضٌ غامض قادم من آسيا يأخذ بالانتشار كالنار في الهشيم في كل أنحاء المعمورة. قد تعتقدون أنني أتكلم عن العام 2020، لكن ما وصفته للتو هو الواقع المؤلم الذي شهده العالم عام 1347م ، العام الذي ضرب فيه الطاعون الدبلي، أو "الموت الأسود" كما سُمي لاحقاً، العالم المعروف آنذاك، والذي تسبب بموت الملايين ولم ينجُ من شرّه بلد بين عاميّ 1346 و 1353م.

لم يستثنِ الطاعون العالم الإسلامي بل فتك به بشدة أسوةً بباقي البلاد، وقد ترك لنا كتّاب ذلك الزمان روايات مؤثرة جداً تصف الرعب الذي شهدته المنطقة في مواجهة عدوٍ لا يرحم. إلى جانب المصادر المكتوبة، وصلت إلى يدينا قطع فنية توثِّق تاريخ هذا الوباء. لدى متحف الفن الإسلامي في الدوحة العديد من المقتنيات التي واكبت هذه الفترة الحزينة من التاريخ.

انتقل الطاعون من سهول آسيا إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، سالكاً الطرق البرية والبحرية التي كانت تشكل العمود الفقري لنظام التجارة الدولية المزدهر الذي ربط شرق آسيا بغرب أوروبا. ومن المفارقة أن هذه الطرق هي نفسها التي عبرت من خلالها المعارف الطبية من الشرق إلى الغرب. من القطع الفنية التي تشهد على هذه المرحلة جرار الصيدلة المسماة "ألباريللي" (أواني برميلية الشكل، مفردها ألباريللو)، التي بدأت تصل إلى إيطاليا منذ القرن الثاني عشر الميلادي. تم إنتاج تلك الأواني أول مرة في سوريا وإيران، واستُخدمت لتخزين المراهم والأعشاب الجافة، وبالتدريج بدأت تصل إلى الصيدليات الأوروبية، حيث ما تزال تُستخدم إلى اليوم. لدينا في المتحف إناء ألباريللو مملوكي نادر، صُنع في دمشق حوالي 1400-1425م (الشكل 1)، يحمل شعار نبالة عائلة ميديتشي التي حكمت فلورنسا، بعد مرور حوالي 50 عاماً على المعركة التي خاضتها المدينة ضد الطاعون.

عكست المدن الكبرى صوراً درامية قاسية  لقوة الطاعون التي لا تُقهر، وقد ترك لنا الرحالة ابن بطوطة سجلاً وصفياً مؤثراً عن مدينة دمشق التي زارها في طريق عودته إلى المغرب في شتاء 1348م. يمكننا أن نتخيل كيف غصَّت مشافي دمشق بالمرضى. أحد هذه المشافي الشهيرة كان البيمارستان النوري، الذي أُنشئ في القرن الثاني عشر الميلادي، وما زال قائماً إلى اليوم. هناك جرّة كبيرة (الشكل 2) صُنعت خصيصاً لهذا المستشفى، وكانت تحوي في الأصل مادة النوفر، وهي مادة مستخرجة من زهرة الزنبق استُخدمت لعلاج أعراض الانهيار العصبي والقلق والأرق، وهي أعراض ربما يكون البعض منا قد اختبرها خلال أشهر العزلة والتباعد الاجتماعي الأخيرة.

وجد أطباء العصور الوسطى أنفسهم غير مؤهلين لمجابهة هذا المرض الذي لم تُعرف أسبابه إلا بعد مرور 500 عام. كان الطب في ذلك الوقت يعتمد بشكل أساسي على الأعشاب والنظام الغذائي والفصد، وكانت معظم العلاجات مستمدة من الأدوية الهلنستية التي وُصف معظمها في مخطوطة ديوسقوريدس الشهيرة للأعشاب الطبية (الشكل 3). اعتقد كثير من الناس أن الطاعون هو  عقاب من الله، أو ربما كان فعلاً من أفعال الجن الشريرة، ومن هنا لجأوا إلى السحر علّه يريح قلوبهم وينجيهم من براثن الموت الجاثم على الصدور. انتشرت المعتقدات والممارسات السحرية على نطاق واسع في المناطق الحضرية والريفية على حدٍ سواء، واستخدمت مجموعة متنوعة من الذخائر مثل التمائم المنقوشة وأواني الخلطات السحرية التي تدرأ الشرور (الشكل 4). لكن السند الأقوى في تلك الأوقات العصيبة كان القرآن الكريم، فقراءته كانت كفيلة بتهدئة الخواطر ورفع الروح المعنوية، لاسيما بعض آياته أو سوَره مثل سورة الإخلاص (الشكل 5)، التي اعتُبرت فعالة في إبعاد شبح الطاعون، خصوصاً عند تلاوتها بصوت عال.

ورغم أننا في القرن الحادي والعشرين بتنا أكثر استعداداً للتصدّي للأوبئة الجديدة، إلا أن التجربة الحالية أظهرت هشاشة عالمنا المتشابك الذي تسيّره التكنولوجيا، وكشفت لنا من جديد ضعف البشر في مواجهة الطبيعة. قد نأخذ عبرة من الاطلاع على خبرات الماضي، وقراءة قصص الناس الذين حاربوا الموت الأسود ونجوا منه. ولربما تزيدنا أصواتهم وأفعالهم ثقةً ببراعة الإنسان وقدرة البشرية على الصمود اللامتناهي في وجه كل الصعاب.

1] هذه القطعة في الأصل عبارة عن جرة دوائية مصممة لتحفظ المراهم الطبية والأدوية الجافة. تعود صناعة هذا النوع من الجرار الدوائية إلى الشرق الأوسط خلال عصر الفتوحات الإسلامية.

[2] زهرة اللوتس أو زنبق الماء.

[3] خمسة مجلدات من دستور الدواء عن النباتات الطبية والأدوية، وقد تمت كتابته ما بين 50 و 70 م.

needs AR translation

الشكل 1:

ألباريللو يحمل شعار نبالة عائلة ميديتشي

سوريا، دمشق

الفترة المملوكية، النصف الأول من القرن التاسع الهجري/ النصف الأول من القرن الخامس عشر الميلادي

PO.297.2006

Needs AR translation

الشكل 2:

جرّة صيدلانية ذات طلاء معدني

سوريا

الفترة المملوكية، القرن الثامن الهجري/ القرن الرابع عشر الميلادي

PO.40.1999

Needs AR translation

الشكل 3:

صفحة مع رسوم من إحدى نسخ مخطوطة ديوسقوريدس للأعشاب الطبية

الهند

الفترة المغولية، القرن الثاني عشر الهجري/ القرن الثامن عشر الميلادي

MS.686.2008

Needs AR translation

الشكل 4:

فنجان برونزي مع تطعيم بالفضة

الأناضول أو الجزيرة الشمالية

الفترة الأرتقية على الأغلب، النصف الثاني من القرن السابع الهجري/ النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي

MW.14.1997

Needs AR translation

الشكل 5:

سورة الإخلاص، من الجزء الثلاثين لإحدى المخطوطات القرآنية

خط وزخرفة أحمد بن علي بن أبي إبراهيم 

المغرب

الفترة السعدية أو العلوية، بتاريخ 1063 هجري/ 1653 ميلادي

MS.11.1999