black and white image of sanatorium

كل ما يتعلق بالتصميم وفيروس كورونا

في أول نسخة لنا من جلسات ليوان، التي تأتي في إطار سلسلتنا المستمرة للجورنال، تحدّث المهندس المعماري والمصمم توماس مودين، في كل شيء يخص التصميم وكوفيد - 19، مع كل من إبراهيم الجيدة، وفاطمة السهلاوي، وهما من رواد المهندسين المعماريين والمتخصصين في التخطيط العمراني في دولة قطر.

Al Journal

المشاركة مع صديق

لقد أثرت جائحة كورونا بلا شك على جميع جوانب التصميم - من تصميم المنتجات والأزياء إلى التصميم العمراني والتخطيط العمراني - وقد أثار ذلك تساؤلات حول دور التصميم في المساعدة على مواجهة هذا الفيروس ومحاصرته. علاوة على ذلك، كغيرها من البلدان في جميع أنحاء العالم، تتصارع قطر مع الاحترازات وأنظمة التباعد الاجتماعي وتأثيرها على الحياة اليومية. هل سلّمت قطر الأوقات الرمادية للكورونا؟ كيف سيؤثر التباعد الاجتماعي على العادات القطرية، والأزياء، وحياة المجتمع التقليدية، والهندسة المعمارية المستقبلية، وتخطيط المساحات، وأنظمة البناء؟ وما دور التصميم حين يتزامن والأوبئة العالمية؟

توماس مودين: 

نحن نعيش في زمن مثير. ما كان ملفتًا للنظر في الشهرين الماضيين هو وضعنا الحالي، وكيف سنبدو فيه، ونحن نطير فوق حياتنا القديمة في حالة ترقب وانتظار، في محاولة لاكتشاف الزمن والكيفية التي سنهبط فيها، وما سيترتب على ذلك. هل سنصل في النهاية إلى شيء مألوف أو شيء غير معهود، وما الشكل الذي ستتخذه مثل هذه المساعي في حصيلتها؟

خلال هذه الفترة، كان من المهم متابعة الاختصاصات المختلفة للانخراط في عالم التصميم، بدءًا من تصميم المنتج إلى العمران والتخطيط العمراني، والمناقشات ذات الصلة التي تدخل في مختلف التخصصات. تخرج بعض الأفكار التحفيزية من مثل هذه المناقشات. وتظل قيد المناقشة حتى وإن كان لها تأثير. تتضمن بعض الأمثلة من أعمال التصميم هذه عددًا كبيرًا من كمامات الوجه المختلفة التي يتم إنتاجها حاليًا. بما في ذلك كمامة الوجه بطباعة ثلاثية الأبعاد، من تصميم المهندس المعماري ألفين هوانغ، والتي تسمح لأي شخص لديه طابعة نوعية ثلاثية الأبعاد بإنتاج كمامات مستوحاة من الرسوم المتحركة(مجانًا) أو كمامات الوجه التي تنتجها شركتا برادا أو آبل.

هناك أيضًا سوابق تاريخية مثيرة لأحداث مماثلة، بدءًا من الطاعون الأسود، في القرن السابع عشر، الذي دعت خلاله الحاجة لمساحات أوسع بتهوية أفضل. وأدت كارثة "الرائحة الكريهة" في لندن في منتصف القرن التاسع عشر إلى تحسين معالجة مياه الصرف الصحي. وفي وقت لاحق، في أوائل القرن العشرين، كان لمرض السل تأثير عميق على الهندسة المعمارية، ومن الأمثلة على ذلك مصحة بايمو التي صمّمها المعماري ألفار آلتو، وبعض الأفكار التي استكشفها وناقشها لو كوربوزييه في بعض كتاباته وأعماله. يبقى أن نرى ما إذا كانت هذه الأنواع من الأعمال الملحوظة والدرامية ستنتجها الأحداث الجارية، وماذا تتوقعون أن تكون آثار ونتائج ما اكتسبناه خلال الشهرين الماضيين؟

إبراهيم الجيدة:

على مدار الأشهر القليلة الماضية، كنت محجورًا في البيت أمارس الرياضة وأتجول في محيط البيت. تختلف هذه الأنواع من الأنشطة من مجتمع إلى آخر. وهذه التجارب، ستؤثر بطريقة أو بأخرى، على أنماط حياتنا.

أحيانًا أجلس مع أصدقائي، ونتحدث حول الكيفية التي سنعود بها إلى حياتنا التي ألفناها، إن استدعى الأمر ذلك، أو هل ستطرأ عليها تغييرات، بغض النظر عن جانب الصحة الشخصية، ولكن حتى اجتماعيًا، بعد هذا الإصلاح، انضافت إلى حياتي أشياء جديدة أرغب في الاحتفاظ بها.

والعجيب في الأمر، أنني بدأت جلسة عصف ذهني مع جميع أعضاء الفرق التابعة لي منذ حوالي شهر. يُقدّر عددنا بحوالي 500 فرد من إدارات التصميم الميكانيكي، والكهربائي، والتخطيط العمراني، والتصميم الداخلي، وما إلى ذلك.. لذلك، جمعت كل رؤساء الإدارات. بدأنا في تبادل الأفكار حول تأثير إعادة تأهيل المباني الموجودة، أو بناء أخرى جديدة. يمكن أيضًا تعويض التصميمات الدقيقة مثل البصمات، أو قارئات العين، ببرنامج التعرف على الوجه. هناك مقابض أبواب مضادة للفيروسات، ودهانات مضادة للبكتيريا. نحن الآن نعيد التحقيق في هذا الموضوع بأكمله، ونقوم بإعداد ورقة تتناول كل هذه القضايا وتناقش تأثيرها.

فاطمة السهلاوي:

نعم، أتفق مع النقطة التي تطرق لها أبو محمد بأن المقيمين في المدن أصبحوا أكثر وعيًا بالرغبات أو الأشياء التي نفضل أن تكون في بيئاتنا والتي لم نكن ندرك قيمتها من قبل. بعد التحدث إلى عائلتي وأصدقائي وزملائي من داخل قطر وخارجها، فقد منحت هذه الفترة الناس فرصة لفهم الكيفية التي يتأقلمون فيها مع وضع غير منسجم مع هذا النمط أو الحياة أو طريقة العيش التي ورثناها. وأن الناس لديهم رغبات شخصية مختلفة تمامًا فيما يتعلق بالطريقة التي يرغبون في العيش بها، أو البيئات التي يريدون الاشتغال بها. تثير مثل هذه المواقف العديد من التأملات والتحديات لدى المهندسين المعماريين، والمصممين الحضريين، والمخططين الحضريين. إن كان هناك من شيء سيتركه هذا الوباء وراءه في التصميم المكاني، فهو الحاجة إلى إعادة النظر والتقييم في التخطيط والتصميم الحضريين بشكل شمولي، لا سيما في الدوحة وقطر. ذكرت أحد الأسئلة (المقدمة سابقًا إلى أعضاء حلقة النقاش) أن "المدن خالية". وأعتقد أنني لم أشاهد أبدًا المجال العام للدوحة الذي صمّم بشكل مبهر، وهو في أوج نشاطه كما هو الحال عليه اليوم.

أسافر كل أسبوع بين منزلنا في الدوحة والمزرعة. وفي الطريق، هناك مارّة يمشون ويركضون ويركبون الدراجات على الأرصفة. هذه الطرق، لم تشهد قط تجربة كهذه. لقد كبرت مدينة الدوحة بسرعة كبيرة. إن التطور الحضري الذي شهدته البلاد في جميع الأنحاء، يتحقق بمعدل غير مسبوق. لدرجة أن المخططين لم تتح لهم فرصة اختبار أو فهم ما يحتاجه المجتمع بالضبط. كانوا ببساطة يسيرون حسب كتاب القواعد. أخيرًا هناك الآن فرصة لإجراء اختبارات اجتماعية لمعرفة كيف ينظر الناس إلى المساحات وكيف يستخدمونها، ومدى فاعلية المخططين الحضريين عند تصميمهم الدوحة. وقد أثبتت بعض الأجزاء نجاحها.

توماس مودين: 

نعم، أسكن في اللؤلؤة، ولم يسبق لي أبدًا أن رأيتها مزدحمة كما هي الآن، خاصة خلال شهر رمضان، لدرجة أنه يتعين على المرء تجنب الخروج في حوالي الساعة الثامنة إلى التاسعة مساءً، بسبب الزحام. ولأنني من الأشخاص الذين يتجولون حول الدوحة مشيًا على الأقدام، فقد لاحظت نقصًا إلى حدّ ما في مستوى التنفيذ الدقيق للعناصر الحضرية المتنوعة. على سبيل المثال، في بعض الأحيان، أرصفة المارة تصل إلى نهايتها، لتضطرّ للعودة. أيضًا، عند الذهاب مشيًا من كتارا إلى اللؤلؤة، يكون المرء مجبرًا على العبور من المساحات الخضراء، إذ ليست هناك أية أرصفة للمشاة حول الدوارات. لذلك نأمل، من وجهة نظر زراعية، أخذ هذه التفاصيل بعين الاعتبار، وإيجاد حلول لها، وتحسينها بسبب الوباء الحالي.

لقد كان من العجيب إدراك كيف أن فيروسًا هو نفسه يجوب أنحاء العالم، غير أن تأثيره كان يبدو مختلفًا في كل جزء من هذا من العالم. لقد تطرقتما إلى هذا الأمر في إجاباتكما السابقة، ولكن هل لديكما أي أمثلة ملموسة أو أفكار أخرى تودان أن ترياها مطبقة في الدوحة، من حيث التصميم، سواء كان ذلك من الناحية المعمارية، أو المنظور الحضري، أو أي شيء آخر؟

إبراهيم الجيدة:

لعلّك تدرك أن البيت قد أصبح هو الملاذ الآمن، ولم نكن نرغب في أن نكون في أي مكان آخر غير البيت.

هناك الكثير من التطورات التي شهدتها دولة قطر. أصبح من الواضح أنه ينبغي استيعاب أي تقدّم جديد، وخلق مساحات في حيز جميل داخل الشقق ذات الإضاءة الطبيعية. أيضًا، إذا طُلب مني الآن تصميم بيت، فسيكون من الضروري تضمين مساحة عمل داخلية في الاقتراح. فيما يتعلق بالتخطيط الشامل وتقسيم المناطق في قطر، يجب أن تتوزع كثافة أماكن سكن العمال. هناك الكثير من الدروس المكتسبة، وخاصة الآن، مع العلم أن هذا الوباء يمكن أن يتكرر، أعتقد أنه سيؤثر على كيفية تصميمنا لمساكننا الشخصية، والشقق، والخطط الحضرية. سيتعيّن على العملاء استيعاب مثل هذه الاعتبارات.

فاطمة السهلاوي:

أعمل حاليًا مع شريكي ناصر العمادي في أول مشروع سكني خاص بنا، وهو توقيت مثالي، حيث تزامنت بدايته مع الوباء. أثناء محادثاتي مع عميلنا، أجرينا مناقشة مختلفة تمامًا دارت حول ما يرغب فيه العميل. هي محادثة تبدأ على مستوى مكتبه، ثم تنتقل إلى الغرفة، فالبيت، فالحديقة، فالحي والمدينة، وكيف نحتل كل هذه النطاقات المختلفة، وكيف يمكن للمرء إعادة رسم هذه الرحلة اليومية أو الطريق الذي يمكن للمرء أخذه انطلاقًا من شيء، أو مكتب، ليصل إلى نطاق المدينة.

من الثمار الهامة التي نتجت عن الظروف الحالية أنه قبل الوباء، كان من المألوف في بيت قطري إضافة غرف، ومساحات، وملحقات. لقد بلورنا فهمًا حول كيفية إعادة استخدام المساحات، وكيف يمكن للاستخدامات أن تتضاعف من الناحية البرمجية. فما اعتدنا أن نراه كمساحات زائدة عن الحاجة، لدينا الآن فرصة للتفكير في كيفية إعادة استخدامها، واستغلالها، بشكل يلبي احتياجاتنا لهذه المساحات. أجريت هذا الحوار حول نطاق الوحدة السكنية ونطاق المدينة. كانت هناك قائمة طويلة من الأشياء التي اعتقدنا أننا بحاجة إليها ثقافيًا في المدينة. نريد أن نضيف هذا، نريد أن نضيف هذا، لكن هناك مساحة لكل شيء، تتطلّب منا فقط التكيّف مع الأشياء، والعمل على ازدواجيتها، بدلاً من توفير مساحات فردية لاستخدامات أحادية. هذه بعض الأفكار المثيرة التي صادفتها كمصممة خلال بعض الحوارات والمهام الأخيرة التي اشتغلت عليها.

توماس مودين: 

أنا من فنلندا، وهي تقريبًا عكس قطر في المناخ والثقافة. هنا في الدوحة، لدينا شقة فسيحة ذات فضاء مفتوح، مما يجعل المحادثات كتلك التي تكون عبر الزووم صعبة للغاية، فزوجتي قد تكون هي الأخرى تتحدث عبر البرنامج في مكان ما من البيت، وابنتي تستخدم البرنامج أيضًا مع مدرستها في مكان آخر. يحدث تداخل في الأصوات، ما يشكّل تحديًا كبيرًا. في فنلندا لدينا أيضًا شقة تزيد قليلاً عن 90 مترًا مربعًا، نسكنها نحن الأربعة. أساساتها متينة، لديها مداخل للضوء الطبيعي والتهوية الطبيعية من كلا الاتجاهين. لا نتحصل فيها على تكييف، لكننا نشعر بالسعادة الغامرة حين نزور المكان. إذا كانت المساحة مصممة بشكل جيد وتنفيذها متقن، فسنكون في غنى عن المساحات الشاسعة.

حين يأخذك التفكير في أماكن مثل اليابان أو طوكيو، ستصادف أعشاشًا أو حدائق صغيرة بجوار الأرصفة، لا تشغل غالبًا أكثر من مترين مربعين، بها بستان من أشجار الخيزران. وبالمثل، أتذكر زيارتي لـ كانازاوا، على الساحل الغربي للجزيرة الرئيسية هونشو. يمكن أن تجد شيئًا مشابهًا، فالجزء الخلفي من التصميمات الداخلية للمتاجر، لا يزيد حجمها أيضًا عن بضعة أمتار مربعة، ولكنها تشكّل فضاءً رائعًا (وحيزًا رئيسيًا) في الجزء الخلفي من متجر صغير. لذلك، فتحقيق التميز والجودة في المكان والجو دون الإفراط في الجهد وزيادة المساحة، هو أمر ممكن جدًا. من المهم التفكير في هذه الاعتبارات، ونتائجها في البيئة المحلية؟

عندما يتجول أحدهم في أنحاء المدينة الآن، وبما أن هناك أشخاص كثيرون يتجولون، كيف يمكن تخفيف "تعقيد" المدينة الحالية؟ مدينة بمثل هذه التعقيدات الكبيرة مثل اللؤلؤة، والخليج الغربي، ومشيرب، وغيرها، والتي عادة ما نقتصر فيها على القيادة، فالمسافات "البينية" (المساحات التي تفصل بين هذه النقاط) غالبًا ما تكون منسية. ربما قد أخذ الوضع الحالي يعكس هذا مجددًا، حيث بدأ الناس في شغل تلك المناطق، والتأمل في الأشياء، وشمّها، ولمسها، والتفاعل مع هذه البيئات بشكل مباشر أكثر. سيكون من المهم أن نرى ما إذا كانت مثل هذه التجارب تؤثر على طريقة استغلالنا لهذه المساحات، والتفكير في ذلك مليَا.

دعونا نطرح سؤالًا آخر. هناك دليل على أن الوضع الحالي قد دفعنا إلى التركيز أكثر على ما هو مهم، على سبيل المثال، بنظرة محدثة على "التصميم البطيء". هل لديكم أي أفكار حول ما يمكن أن يترتب عنه ذلك بالنسبة لكم، ولممارستكم، والارتباطات ذات الصلة، بشكل عام في قطر؟ هل ترون أن هذا الوضع يؤثر على ما يمكن/ ينبغي أن تصبح الدوحة عليه؟ لقد تطرق كلاكما إلى هذا الموضوع، ولكن ما هي الخطوة التالية؟ لقد أبديتما رأيكما حول كيفية تنفيذ بعض هذه الأعمال. لا نريد أن ينتابنا الشك بشكل مفرط، ولكن هناك احتمال واضح أنه بمجرد ما يبدأ الوضع الحالي في التلاشي، ستعود جميع عاداتنا القديمة. كيف نستطيع تجنب هذا؟ ما الذي يتعين علينا القيام به حتى نتمسك بالدروس القيمة التي اكتسبناها من هذه التجربة؟

إبراهيم الجيدة:

بالتأكيد سيكون لها تأثير. ستكون حياة "ما بعد كورونا". اكتسبت أمورًا جيدة وأنا مستمتع. لدي أطفال من المدرسة الثانوية إلى الكلية. لقد بدأنا نتناول العشاء معًا كل يوم، وهو ما لم نكن نفعله من قبل بسبب التزامات كل واحد منا. تقول بناتي، "بابا، هذا يشبه السفر"، لأننا نقوم بذلك في أيام الإجازات، ولا نقوم به في أيامنا العادية بالبيت، قد نقوم به مرة واحدة في الأسبوع. لذلك، فأنت تبدأ بتقديس قيمة الأمور التي كنت تتعامل معها كأمر مسلم به؛ وهذا ينطبق أيضا على المساحة من حولك. نعيش مع خمسة إخوة في مجمع سكني به حديقة واحدة كبيرة، يلعب فيها الأطفال معًا، لذا فنحن محظوظون أكثر من بعض أقاربنا الذين يعيشون بمفردهم. كنت أدخن سيجارة واحدة في اليوم، أما الآن فأدخن سيجارة واحدة في الأسبوع، ولقد كان ذلك محطّ تقدير بالنسبة لي. اكتشفت أن طعمها أفضل بكثير عندما تستهلكها مرة واحدة في الأسبوع! أنا الآن أمشي لمدة ساعة كل يوم. وكنت إذا مشيت لمدة ساعة في نهاية كل أسبوع، فأنا محظوظ. هذه عادات أود الاحتفاظ به، وسنرى ذلك.

لم أكن أرغب في أن أمكث في أي مكان آخر خلال هذه الأزمة، غير البيت. ولكن الآن، من بين جميع المواضيع التي نوقشت، الزبون الواعي سيضفي على التصميم أمورًا تعكس مدى تقديرنا للمكان أكثر من أي وقت مضى. تبدأ أيضًا في الشعور بقيمة مدينتك، وبيئتك المحيطة أكثر من ذي قبل.

فاطمة السهلاوي:

نعم، أعتقد أن منازلنا، وهنا أشير مرة أخرى إلى المساكن القطرية، عادة ما تكون شديدة السكون. فمن اليوم الذي ننتقل فيه إلى المنزل، لا يتغير تخطيطه ولا مواضع الأثاث فيه إلا نادرًا. يرجع ذلك بشكل أساسي إلى أن الأب والأم يعملان. علاوة على أن دوام المدارس والجامعات ينتهي متأخرًا. يكاد يبدو الأمر كما لو أن المنزل أو وحدة السكن قد أصبحت مكانًا انتقاليًا – مكان تزوره بشكل مؤقت.

أتذكر الأوقات التي كنت أقضيها خارج المنزل والتي تصل إلى ثلاثة عشرة ساعة يوميًا، لذلك لم أكن أقضي الكثير من الوقت في المنزل قبل ساعات النوم. قضيت الكثير من الوقت في جعل مكتبي مريحًا، وإيجاد مقهى جميل أعمل فيه بعد انتهاء ساعات العمل، والعثور على فضاء مريح للاجتماعات يمكنني فيه مقابلة العملاء أو الزملاء. وبدا أن تركيزي انصب على تحديد أماكن "أخرى" لمعيشتي وجعلها مريحة. ولم يكن المنزل يحظى بهذه الأولوية. ولكني الآن، بدأت أنتبه إلى تشكيل المزيد والمزيد من المساحات الداخلية والخارجية، وتجربتها. كما توجد حاليًا تجارب محلية في محاولات قد تصيب وتخطئ؛ وهناك وقت للقيام بذلك. "لننقل الإنارة إلى هذه الزاوية حيث ستعمل بشكل أفضل، فلنغير كذا وكذا…". وهكذا تبدأ في التعرف على كل زاوية وركن في المنزل؛ وهذا سيحدث فرقًا كبيرًا في تصميم مساكننا مستقبلًا.

أعتقد أن هذا التغيير سينتج عنه تحول في تصميم المنازل، سواء على مستوى الشخص الذي سيعيش في المنزل، أو على مستوى المقاول المسؤول عن البناء، وسواء تعلّق الأمر بتشييد لمبنى سكني أو شقة، أو حتى على مستوى التخطيط العمراني أو هيئة مخصصة للتخطيط العمراني تقوم بإعداد المبادئ التوجيهية المتعلقة ببناء وتقسيم المناطق؛ وهذا سيؤدي إلى العديد من التغييرات على مختلف تلك المستويات. لن تكون هذه التغييرات بالضرورة قابلة للتطبيق بشكل متساوٍ أو حتى مقبولة لدى الجميع. ومع ذلك، سيكون لدينا مزيج رائع من الأشخاص المعجبين باستمرار بهذه الطرق الجديدة التي يستمتعون باستخدامها الآن، ويطبّقونها، ويطوّرونها، ويجعلونها  إرثًا مستمرًا. وهناك أيضًا أشخاص مستعدون دائمًا وأبدًا للعودة إلى الماضي، وحريصون جدًا على ذلك.

إبراهيم الجيدة:

عندما أتجول الآن في الحي الذي أسكن فيه، أجده غير مكتظ، وبه العديد من السكان المحليين، الذين أصبحوا "كائنات داخلية" على مدى العقود القليلة الماضية. فقد كنا نادرًا ما نستخدم حدائقنا، وحاليًا أصبحنا على عكس ما كان عليه آباؤنا، نقضي الوقت في الفناء، بل دائمًا ما نكون بالخارج. الآن بعدما اعتدت التجول في الحي الذي أسكن فيه، لاحظت أن الكثير من الناس يقضون الوقت في حدائقهم! وبالتالي، عند تصميم مكان جديد، أصبح من الضروري التفكير في توفير مساحة لحديقة مناسبة يمكن استخدامها كفضاء للتجمع بدلًا من المساحات الشاسعة لصف السيارات.

توماس مودين:

لقد عشت في أحد هذه المجمعات السكنية الضخمة لبضع سنوات. ولأن جميع المنازل كانت متشابهة جدًا، أتذكر أنني كنت أعد المنازل للوصول إلى منزلي. يتكرر نفس نمط وشكل المنازل في جميع شوارع المجمع، ما يجعلها بيئة عمرانية رتيبة. ربما الآن بعد أن زاد عدد الأشخاص الذين يقضون الوقت في الخارج، أصبح هناك إدراك للتنوع في البيئة العمرانية واعتراف بقيمتها. تظهر هنا أيضًا قيمة تمويه أو تذويب للحدود بين الممارسات المختلفة في العمارة والتنمية العمرانية. كمثال على ذلك في الممارسة العملية، يمكننا أن نذكر مصطلح "مساحة مشتركة" من مفهوم التصميم الحضري، والذي أحدثه مهندس المرور الهولندي هانز مونديرمان. فقد ابتكر تصميمات تتداخل فيها الوظائف بين حركة مرور المركبات، وحركة المشاة، مما أدى إلى زيادة الوعي بدور المشاة الذين يشغلون المساحات حول المركبات، ما يجعل البيئة أكثر أمانًا لهم. وسيكون من المهم معرفة ما إذا كان يمكن تنفيذ خطة مشابهة لذلك في قطر.

فاطمة السهلاوي:

أعتقد أن فكرة "حوكمة الفضاء العام" نحو مساحة عامة أكثر تشاركًا ستكون مثيرة جدًا للاهتمام نعرف من خلالها ما إذا كان ذلك سيتغير. إذا كنت ضمن عائلة تعيش في فيلا مغلقة، فهل تتوقف مساحتك الخارجية عند البوابة، أو تسمح لك بعض الوسائط بالتوسع (خارج حدود السيارة التي أوقفتها بالخارج)؟ هل يمكن أن يؤدي هذا "التوسع" إلى تحريك هذه المساحة الخارجية خارج حدودك؟ الأمر نفسه ينطبق على المقاهي، حيث تبلغ مساحة الجلوس في الهواء الطلق ثلاثة أمتار. هل يمكن لأي شخص أن يمسك كرسيًا خارجيًا ويسحبه خارج حدود هذه المجموعة؟ كيف يمكن تغيير ذلك، أو معارضته؟

لقد ذكرت سابقًا أننا بدأنا شبكة مشاة ودراجات في الهواء الطلق، وهي ناجحة إلى حد ما. سيكون من الرائع أن نرى كيف يمكن أن تصبح طريقة شغل الفضاء العام "طبيعيا" بمثابة تمرين تدريجي لنا، وذلك خارج حدود القواعد والضوابط؛ وتأتي كلمة "طبيعيًا" من الكيفية التي بدأ فيها الناس بالشعور بضرورة شغل هذه الفضاءات.

بعد حرب الخليج حدث شيء مثير للاهتمام في الكويت. في العديد من أحياء الكويت، توجد "منطقة عازلة" خضراء بين صف من الفيلات أو المباني السكنية والشارع الرئيسي للمركبات. بدأت تلك المنطقة كرصيف عريض للسماح بمسافة بين الطريق السريع الرئيسي والمنازل والمباني المجاورة. ثم أصبح ذلك الصف تدريجيًا مكوّنا من مكوّنات المناظر الطبيعية تحافظ عليه البلدية. وبدأت البيوت المجاورة للمنطقة الخضراء تتولى تدريجيًا مسؤولية الأراضي المقابلة لها. وبالرغم من أن الأرض ليست في ملكهم (ملكية الحكومة)، إلا انها مرتبطة مكانيًا بمنازلهم. بدأت العديد من العائلات في زراعة الخضروات في هذه المناطق وأقامت مناطق للجلوس وملاعبًا. وبذلك ظهرت هذه المنطقة العازلة التي تعمل أيضًا كمساحة مشتركة لا كحديقة تابعة للبلدية، كما أنها ليست قطعة أرض خاصة. بل مساحة عامة يمكن للناس ارتيادها والاستفادة منها "طبيعيًا".

في الكويت، هذه تعد أكثر الأماكن جاذبية، تستحق الزيارة، لفهم التركيبة الاجتماعية لسكانها في الحي وشوارعه. وهي أيضًا مكان رائع لمعاينة مختلف اهتمامات العائلات على طول الشارع، واستيعابها بشكل أفضل. هناك فنانة خزف تعيش في إحدى هذه المناطق، وقد وضعت الكثير من قطع الخزف في قطعة الأرض المجاورة لمنزلها. حتى يكاد يكون معرضًا خارجيًا يمكنكم التجول فيه.

لذا، يتعلق الأمر بكيفية السماح للمساحات العامة بالنمو وأن تكون مفعمة بالحياة طبيعيًا، سواء كان ذلك في مشيرب، أو في مشروع تطوير "ملتزم" للغاية، أو في أحد الأحياء القديمة. لكني أعتقد أن التخطيط من المستوى الفردي إلى مستوى الهيئات الحكومية المنوطة بالتخطيط، فإن زيادة الظهور في الأماكن العامة ستغير مفهوم الأماكن العامة، وكيفية شغلها والاستفادة منها بشكل مختلف.

توماس مودين:

فعلًا، عادة في هذا الوقت من العام (حوالي منتصف شهر مايو)، يتحجج الناس بحرارة الجو فلا يخرجون في الهواء الطلق، ومع ذلك، فإن الشوارع ممتلئة حاليًا، وهذا يثبت أن الموقف العام والمنتشر قد يكون خاطئًا. ففترة الخروج في الهواء الطلق تكون أطول بكثير مما يعتقده الناس في كثير من الأحيان.

عظيم! ربما نكون قد أشرفنا على نهاية هذه الجلسة، لكن هل لديكم أية نقاط ختامية تودون ذكرها أو مناقشتها؟

إبراهيم الجيدة:

سيكون من المثير أن ترى كيف لبعض المشاريع الحالية أن تستمر، بعد أن أصبح لدينا خيار للمكان الذي نعيش فيه. بالتفكير بشكل خاص في بعض هذه المباني المكتظة بالسكان والتي تحتوي على عشرين شقة في كل طابق، لن ترغب اليوم في العيش هناك. لذلك، يجب إجراء بعض التعديلات. الأمر نفسه ينطبق على المساحات المكتبية، حيث يتم التركيز على عنصري الكفاءة والتفاعل. الآن سيتعين علينا التعديل، والحفاظ على مسافة أكبر، وربما العودة إلى مفهوم المقصورة الشخصية. لذلك، سيكون من الأهمية أن نتأمل كيفية تصرف الناس وتفاعلهم عندما يبدأ الوضع الحالي في التراجع. الأمر محزن من الناحية الاجتماعية، لأننا عاجزون على الترحيب أو المصافحة بالشكل الملائم، والأمر يستغرق بعض الوقت قبل حتى نعود إلى سابق عهدنا (تتم المصافحة باستخدام الكوع). وبالتالي مهم جدا معرفة رد فعل الناس على بيئاتهم الجديدة المعدّلة.

فاطمة السهلاوي:

أعتقد أن فكرة الكثافة، خاصة عند دراسة التصميم العمراني/ الحضري في كلية الهندسة المعمارية، كانت أحد العناصر الأساسية للاستدامة العمرانية والبيئية: فكلما زادت الكثافة، كان الوضع أفضل. أما في الوقت الحالي، فهناك معضلة تتلخص فيما إذا كنا نرغب في استمرار هذه الكثافة، أم أن توزيع المجتمع يلائم هذه المرحلة أكثر؟ بالعودة إلى قطر، هذه لحظة تاريخية مهمة تسمح لبعض البلدات والمدن الأخرى المحتملة، بأن تظهر على الساحة مرة أخرى. تاريخيًا، كانت العديد من هذه المدن الصغيرة تكتسي أهمية أكبر من الدوحة. وتباينت أسباب أهميتها وتشكيلها ما بين موقعها الجغرافي، ومنتجاتها الطبيعية، ومكانتها في الاقتصاد والتجارة. لكن اليوم، هناك فرصة لبلورة فهم حول المدينة وفق السياق. هل ستصبح بعضها مراكز للإنتاج الغذائي نظرًا لقربها من مزارع رئيسية؟

وكما أشرت سابقًا، فإنني أزور المزرعة مرة واحدة في الأسبوع. أقوم بهذا لأننا لاحظنا مؤخرًا زيادة كبيرة في الطلب على منتجات معينة. لذلك يبدو أن هناك تحولًا في "الجدول" السنوي الموسمي للمحاصيل الزراعية. لقد زرت سوقًا للمزارعين المحليين حيث يبيعون منتجات طازجة، وكنت أراقب جميع العارضين في السوق من المزارع المختلفة. واستنتجت أن هناك زراعة محلية تعمل بكفاءة، حيث تهتم دولة قطر بأمنها الغذائي. ويمكننا الاستفادة من هذا النوع من الاقتصاد في الإنتاج المحلي للأغذية، وتطوير المستوطنات والمدن القريبة من صناعات معينة.  هذا مثال إذن على صناعة توظف الكثير من الناس، لكنها لا تزال تحظى بالمرتبة الثانوية بالنسبة لأولويات الصناعات المحلية.

أمامنا الآن فرصة “للتخلي عن" الاكتظاظ، وإعادة توزيعه في جميع أنحاء البلاد، وتوسيع نطاق التنمية خارج الدوحة إلى الشمال والغرب والجنوب. يمكن أن لتطورات أخرى أن تستخدم بعضًا من هذه الكثافة والسكان بطرق تسمح للفرد باستكشاف أساليب تصميم المباني السكنية، وأماكن العمل، والطرق، وتحسينها من أجل مصلحة سكان هذه المدن الموسعة والمدن المحتملة. إنه الوقت المناسب والحاسم للتخطيط العمراني في قطر.

توماس مودين:

بمعنى أنه يمكن اتخاذ طوكيو كنموذج لذلك، حيث لا يوجد بها مركز جذب واحد، ولكن مجموعة من المراكز بجانب بعضها البعض، كل منها مكتفٍ ذاتيًا.

فاطمة السهلاوي:

نعم، ولكي يكون للأحياء اكتفاء ذاتي إلى حد ما في الاحتياجات. لذلك، على سبيل المثال، السكن بجوار المطار، لن يضطرني إلى القيادة للؤلؤة لجلب شيء أحتاجه لليوم. هناك أساس لذلك، والبلدية بتنظيمها لأسواق الفرجان، وهي بحاجة إلى التوسع، لذلك لا يكتفي كل حي بمحل بقالة فقط، وربما صالون حلاقة. بل ينبغي أن تكون هناك مرافق أكثر. يجب أن تشمل هذه الاعتبارات أيضًا تطوير شخصيات وهويات مختلفة لكل حي.

توماس مودين:

عظيم! هل لديكم أي شيء آخر تضيفونه؟

لا؟ حسنًا، شكرًا جزيلا لكم! لقد كان لقاؤنا مثمرًا وممتعًا. نأمل أن تستمر هذه المناقشات في أوقات لاحقة.

فاطمة السهلاوي:

شكرًا لكم! لقد كانت هذه المناقشة مميزة، وسيكون من الرائع متابعتها.

عائشة السويدي، مدير ليوان، استديوهات ومختبرات التصميم

لقد كان الحوار ممتعًا. شكرًا لكم على مشاركتكم.

إن فكرة "المنزل" هي موضوع جدير بالبحث، وأمر أجده يكتسي أهمية بالغة. في زمننا هذا، يعدّ التفكير في أسلوب حياتنا أمرًا مشجّعًا. لقد تطرقتم جميعًا إلى بعض الإشكالات، وأبديتم ملاحظات وثيقة الصلة بالموضوع، مثل التغيير في ديناميكيات الأحياء، واختبار المخطط العمراني للدوحة. وإنه الوقت المناسب للتفكير وإعادة النظر في أسلوب البناء. نحن بحاجة إلى التوسع في كيفية استخدام منازلنا. يجب أن تكون منازلنا أكثر من مجرد أماكن للتجمع.  نحن الآن نحتاج أيضًا إلى مكاتب ومساحات للتمارين الرياضية. أنا متأكدة من أن لديكم جميعًا المزيد لتضيفوه. فهذا الموضوع واسع، ويجب استكمال وتغطية جميع جوانبه. شكرًا لكم جميعا على وقتكم.

هذا هو أول حوار نجريه في الجورنال. نأمل أن نجري المزيد من الحوارات في المستقبل القريب لإضافتها إلى المجلة.

خالد البيه، رئيس قسم البرامج، ليوان، استديوهات ومختبرات التصميم

كان الحوار شيقًا. شكرًا جزيلًا لكم جميعًا. كما قالت عائشة، هذا واحد من البرامج المتعددة التي نعتزم استضافتها في ليوان. سنواصل الحوار حول التصميم في الدوحة، وما يمكننا القيام به لتحسين المعيشة، كما سنواصل التأمل في الدوحة "بأعين محلية" من وجهة نظر الأشخاص الذين يعيشون أو عاشوا في الدوحة. شكرًا لكم جميعًا!

عقدت الجلسة بتاريخ 10 مايو 2020